فصل: تفسير الآية رقم (7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (77):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [77].
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَاْن أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي: جدل بالباطل، بيّن الجدال، وهذه تسلية ثانية، بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. تأثرت الأولى وهي قوله: {فَلَا يَحْزُنكَ} الآية، عنايةً بشأنه صلوات الله عليه.
قال الطيبي: هذا معطوف على: {أَوَلَمْ يَرَوْا} قبله. والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس، فإنه خلق له ما خلق ليشكر، فكفر وجحد النعم والمنعم، وخلقه من نطفة قذرة ليكون منقاداً متذللاً، فطغى وتكبر وخاصم.

.تفسير الآية رقم (78):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [78].
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} أي: في استبعاد البعث وإنكاره: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي: خلقنا إياه: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي: بالية أشد البلى، بعيدة عن الحياة غاية البعد. وإنما لم يؤنث لأنه اسم لما بلي من العظام، جامد غير صفة، كالرمة والرفات، أو مشتق فعيل بمعنى فاعل، إلا أنه لما غلب جريانه على غير موصوف، ألحق بالأسماء فلم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رمّه، بمعنى أبلاه. وأصله الأكل، من: رمت الإبل الحشيش. فكأن ما بلي أكلته الأرض. وقال الأزهري: إن عظاماً، لكونه بوزن المفرد، ككتاب وقراب، عُومل رميم معاملته، وذكر له شواهد. قال الشهاب: وهو غريب.

.تفسير الآية رقم (79):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [79].
{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: فلا تقاس قدرة الخالق على قدرة المخلوقين. وإنما تقاس إعادته على إبدائه: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي: فلا يمتنع عليه جمع الأجزاء بعد تفرقها، لعلمه بأصولها وفصولها ومواقعها، وطريق ضمها إلى بعضها.

.تفسير الآية رقم (80):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} [80].
{الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ} أي: الذي خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضراً نضراً فأثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً يوقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد، لا يمنعه شيء. قال قتادة: الذي أخرج النار من هذا الشجر، قادر على أن يبعثه. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ، والعقار: من شجر البادية، في أرض الحجاز. فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيأخذ منه عودين أخضرين، ويقدح أحدها بالآخر، فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء. روي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، والعَفار الزند وهو الأعلى. والمرخ الزندة وهو الأسفل بمنزلة الذكر والأنثى. وعكس الجوهري فجعل المرخ ذكراً، والعفار أنثى، واللفظ مساعد له، إلا أن الأول يؤيده قول الشاعر:
إِذَا الْمُرْخُ لَمْ يُوْرِ تَحْتَ الْعَفَاْرِ ** وَضُنَّ بِقَدْرٍ فَلَمْ تُعْقَبِ

وقال أبو زياد: ليس في الشجر كله أورى ناراً من المرخ، وربما كان المرخ مجتمعاً ملتفاً، وهبت الريح، وجاء بعضه بعضاً فأورى فأحرق الوادي، ولم نر ذلك في سائر الشجر. وقال الأزهري: العرب تضرب بالمرخ والعفار، المثل في الشرف العالي. فتقول: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار. أي: كثرت فيهما على ما في سائر الشجر. واستمجد: استكثر واستفضل. وذلك أن هاتين الشجرتين من أكثر الشجر ناراً، وزنادهما أسرع الزناد ورياً. وفي المثل: اقدح بعفار أو مرخ، ثم اشدد إن شئت أو أرخ. ويقال: في كل شجر نار إلا العُنّاب.
قال الشهاب: ولذا يتخذ منه مدقّ القصارين. ثم أنشد لنفسه:
أَيَاْ شَجَرِ الْعُنَّاْبِ نَاْرُكَ أَوْقَدَتْ ** بِقَلْبِيْ وَمَا الْعُنَّاْبُ مِنْ شَجَرِ النَّاْرِ

انتهى.
والمقصود أنه تعالى لا يمتنع عليه إعادة المزاج الذي به تعلق الروح بعد انعدامه بالكلية؛ لأن الذي يبدل مزاج الشجر الرطب بمزاج النار، وهي حارة يابسة بالفعل، مع ما في الشجر من المائية المضادّة لها، أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّاً، تطرأ عليه اليبوسة والبلى.

.تفسير الآية رقم (81):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [81].
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي: مع كبر جرمهما: {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم} أي: في الصغر والضعف ثانياً، بعد ما خلقهم أولاً: {بَلَى} أي: هو القادر: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} أي: الكثير الخلق مرة بعد أخرى: {الْعَلِيمُ} أي: الواسع المعلومات.

.تفسير الآية رقم (82):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [82].
{إِنَّمَا أَمْرُهُ} أي: شأنه الأعلى، أو قوله النافذ: {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} أي: إذا تعلقت إرادته بإيجاد شيء: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: فيوجد عن أمره.

.تفسير الآية رقم (83):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [83].
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} تنزيه له مما وصفهُ به المشركون، وتعجب من أن يقولوا فيه ما قالوا. وهو مالك كل شيء، والمتصرف فيه بلا وازع، ولا منازع {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: بعد الموت، فيجازيكم بأعمالكم.
فائدة:
قال ابن كثير: الملك والملكوت واحد في المعنى، كرحمة ورحموت، ورهبة ورهبوت، وجبر وجبروت. ومن الناس من زعم أن المُلك هو عالم الأجسام، والملكوت هو عالم الأرواح. والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. انتهى.
ولبعضهم: إن الملكوت صيغة مبالغة من الملك، فهو بمعنى الملك التام، والله هو العليم العلام.

.سورة الصافات:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [1- 4].
{وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهاراً لعظم شأنها وكبر فوائدها، وتنبيهاً إلى الاعتبار بصفتها وما تستدعيه من سمتها. والصافات: جمع صافة، أي: طائفة صافة، أو جماعة صافة.
فيكون في المعنى جمع الجمع، أو على تأنيث مفرده، باعتبار أنه ذات ونفس. والمراد بالصافات الملائكة؛ لقيامها مصطفة في مقام العبودية لمالك الملك. من قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165]، أو لصفها أجنحتها في الهواء واقفة منتظرة لأمر الله تعلى. و{الزَّاجِرَاتِ} أي: الناس عن المعاصي، بإلهام الخير، من الزجر بمعنى المنع والنهي، أو الزاجرات الأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور به. من الزجر بمعنى السوق والحث. والتاليات، أي: آياته تعالى على أنبيائه عليهم السلام.
وقيل: الصافات الطير. من قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النور: 41] والزاجرات: كل ما زجر عن معاصي الله. والتاليات: كل من تلا كتاب الله.
أو هم العلماء الصافون في العبادات أقدامهم، الزاجرون عن الكفر، والفسوق بالحجج، والنصائح، التالون آيات الله وشرائعه.
أو هم الغزاة الصافون في الجهاد، والزاجرون الخيل أو العدو، التالون لذكر الله، لا يشغلهم فيها عنه مبارزة العدو. وقد ذكر غير هذا، مما يشمله اللفظ ولا يأباه. وبالجملة، فالعطف إما لاختلاف الذوات أو الصفات. وإيثار الفاء على الواو؛ لقصد الترتيب والتفاضل طرداً أو عكساً، أما الأول فاعتناء بالأهم فالأهم. وأما الثاني فالترقي إلى الأعلى. وصفاً، وزجراً، مصدر مؤكد، وكذا ذكراً، ويجوز فيه كونه مفعولاً به. قال الناصر: وفي هذه الآية دلالة على مذهب سيبويه، والخليل في مثل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1- 2]، فإنهما يقولان: الواو الثانية وما بعدها عواطف. وغيرهما يذهب إلى أنها حروف قسم. فوقوع الفاء في هذه الآية موقع الواو. والمعنى واحد، إلا أن ما تزيده الفاء من ترتيبها، دليل واضح على أن الواو الواقعة في مثل هذا السياق، للعطف لا للقسم. انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} الجواب للقسم، وفي تأكيد المقسم عليه بتقديم الإقسام وتوكيد الجملة، اهتمام به بتحقيق الحق فيه الذي هو التوحيد، وتمهيد لما يعقبه من البرهان الناطق به، وهو قوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [5].
{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} فإن وجودها وانتظامها على هذا النمط البديع، من أوضح دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته، وأعدل شواهد وحدته، أي: مالك السماوات والأرض، وما بينهما من الموجودات، ومربّيها، ومبلغها إلى كمالاتها. والمراد بالمشارق مشارق الشمس. وإعادة ذكر الرب فيها، لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم. فإنها ثلاث مائة وستون مشرقاً، تشرق كل يوم من مشرق منها، وبحسبها تختلف المغارب، وتغرب كل يوم في مغرب منها. وأما قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} فهما مشرقا الصيف والشتاء ومغرباهما. أفاده أبو السعود.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [6].
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا} أي: الجهة العليا القربى من كرة الأرض: {بِزِينَةٍ} أي: عجيبة بديعة: {الْكَوَاكِبِ} بالجر، بدل من زينة. وقرئ بالإضافة، على أنها بيانية، أو على معنى ما زينت هي به، وهو ضوؤها، والمراد التزيين في رأي العين، فإن الكواكب تبدو للناظرين كأنها جواهر متلألئة.

.تفسير الآية رقم (7):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} [7].
{وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ} أي: خارج عن الطاعة، يقذفه بشهبها، كيما يتطاول إلى استراق السمع من جهتها و{حِفْظاً} إما منصوب بإضمار فعله، أي: حفظناهما حفظاً، أو بعطفه على: {زِينَةٍ} من حيث المعنى، أي: خلقنا الكواكب للسماء زينةً وحفظاً، أو على المفعول لأجله بزيادة الواو، والعامل فيه: {زيَّنَّا}.

.تفسير الآية رقم (8):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ} [8].
{لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} قرئ بالتخفيف والتشديد. وأصله يستمعون، أي: يتطلبون السماع. والضمير لكل شيطان؛ لأنه في معنى الشياطين. والجملة مستأنفة لبيان ما عليه حال المسترقة للسمع من أنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة الخ. أو هي علة للحفظ، أي: لئلا يسمعوا. فحذفت اللام ثم أنْ، وأهدر عملها. وضعفوه بلزوم اجتماع حذفين، وهو منكر. كما ذكروه في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، أي: لئلا تضلوا، وقد يقال: إنما ينكر حذف شيئين فيما يخل بانسجام الكلام. أما في تقدير أمر له نظائر، ومرجعه إلى تحليل معنى لا يأباه اللفظ- فلا وجه للتعصيب في رده، لمجرد أن الكوفيين، مثلاً، ذهبوا إليه أو غيرهم. وشاهد المعنى أعدل من حكم القواعد، وتحكيمها: {وَيُقْذَفُونَ} أي: يرمون: {مِن كُلِّ جَانِبٍ} أي: من جميع جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها.

.تفسير الآية رقم (9):

القول في تأويل قوله تعالى: {دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [9].
{دُحُوراً} أي: للدحور وهو الطرد: {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} أي: شديد غير منقطع.

.تفسير الآية رقم (10):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [10].
{إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: اختلس الكلمة: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي: لحقه شعلة نارية تنقضّ من السماء: {ثَاقِبٌ} أي: مضيء، كأنه يثقب الجوّ بضوئه.
تنبيه:
ذكر المفسرون أن الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء، فربما سمعوا كلام الملائكة، وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به، ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب، فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب، فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم.
قال ابن كثير: يعني إذا أراد الشيطان أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، ولهذا قال جل جلاله: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَأِ الْأَعْلَى} أي: لئلا يصلوا إلى الملأ الأعلى، وهي السماوات، ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى بما يقوله من شرعه وقدره، كما وردت الأخبار بذلك في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23]، انتهى.
قال بعض علماء الفلك: كما أن العرش تحفّة الأرواح الغيبية- حسبما تقدم بيانه في آية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، في الأعراف- فكذلك الكواكب الأخرى مسكونة مع الحيوانات، والدواب بأرواح، منها الصالح: الملك، ومنها الطالح: الشيطان، وكذلك أرضنا هذه، فيها من الملائكة، ومن الشياطين مالا نبصره: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
ولا يخفى أن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، فعدم إدراكنا لهذه الأرواح لا يدل على عدم وجودها، كما أن عدم معرفة القدماء للميكروبات وللكهرباء التي تشاهد الآن آثارها العظيمة، لم يكن يدل على عدم وجودها إذ ذاك في العالم، فمن الجهل الفاضح إنكار الشيء لعدم معرفته أو العثور عليه، على أن لنا الآن من مسألة استحضار الأرواح أكبر دليل على وجود أرواح في هذه الأرض، لا نبصرها ولا نشعر بها.
وقد قدّر الله تعالى أن الحيوانات في هذه الأرض، إذا خرجت عنها إلى حيث ينقطع الهواء ويبطل التنفس، تموت في الحال. وكذلك قدر أن الأرواح الطالحة التي في أرضنا هذه، إذا أرادت الصعود إلى السماء، والاختلاط بالأرواح التي في الكواكب الأخرى، انقضّ عليها، قبل أن تخرج من جوّ الأرض، شهاب من هذه الكواكب، أو من غيرها، فأحرقها وأهلكها، بإفساد تركيبها ومادتها، حتى لا يحصل اتصال بين هذه وتلك، ولا تطلع على أسرار العوالم الأخرى، وهذه الشهب التي تنقضّ، إن كانت صادرة من أجرام ملتهبة، كانت ملتهبة، وإن كانت صادرة من أجرام غير ملتهبة، التهبت فيما بعد لشدة سرعتها واحتكاكها بالغازات التي تمر فيها في جونا هذا. ولعل في مادة الشياطين ما يجتذب إلى هذه الشهب ويتحدُ بها. كما تجتذب العناصر الكيماوية بعضها بعضاً.
مثال ذلك عنصر الصوديوم فإنه يجتذب إليه الأكسجين من الماء فيحلله. ولا نقول إن جميع الشهب تنقضّ لهذا السبب، بل منها ما ينقضّ لأسباب أخرى. كاجتذاب بعض الأجرام السماوية له، ومنها ما ينقض لإهلاك الشياطين، كما بينّا هنا. والشياطين مخلوقة من مواد غازية كانت ملتهبة: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27]، والمراد بالسماء الدنيا في هذه الآية الفضاء المحيط بنا القريب منا، أي: هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها. أما ما وراءه من الجواء البعيدة عنا، التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظيرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه. فلفظ السماء له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو، وتُفسَّر في كل مقام بحسبه.
ثم قال: فكل مسألة جاء بها القرآن حق، لا يوجد في العلم الطبيعي ما يكذبها؛ لأنه وحي الله حقاً، والحق لا يناقضه الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
وقال أيضاً: يعتقد الآن علماء الفلك أن أكثر الشهب تنشأ من ذوات الأذناب، ويحتمل أن بعضها ناشئ من بعض الشموس المنحلّة، أو الباقية الملتهبة، أو من براكين بعض السيارات، أو مما لم ينطفئ من السيارات للآن، ومتى علمنا أن ذوات الأذناب والسيارات جميعاً مشتقة من الشموس، كان مصدر جميع الشهب هو الشموس، أو النجوم. قال: وهذا يفهمنا معنى هذه الآية. اه- كلامه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5]، وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16- 18]، وقوله سبحانه إخباراً عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن: 8- 9].